جميلٌ في العراء.. (رأي حر)
يمتاز رمضان، شهر التوبة والأوبة، في الفضائيات العربية بكثرة المسلسلات الترفيهية والسياسية. وهي ظاهرة يؤسف لها لإخراجها الشهر الكريم عن مقاصده السامية، حيث تشغل هذه المسلسلات بعض الناس عن العبادة، وتعمق السياسية منها الشرخ في صفوف الامة. يندرج في هذا السياق مسلسل "عمر بن الخطاب". إذا كان مسلسل عمر مثار خلاف فقهي طائفي، فإن مسلسل "الرسالة"، على خلافه، حظي بإجماع الأمة، فدخل كل البيوت، وأسهمت نسخته الأجنبية في اعتناق العديد من غير المسلمين الإسلام... ولأن المسلسلات ليست بعيدة عن المناخ السياسي، فإن بعض تفاعلات ذاك المناخ قد تذكرك بلقطات بارزة في تلك المسلسلات...
لعل القارئ الكريم يتذكر لقطة "أبو سفيان بن حرب" في المدينة المنورة، بعد نقض قريش صلح الحديبية... كان في ساحة المسجد النبوي يستجدي كبار الصحابة أن يشفعوا له عند رسول الله صلى الله عليه وسلم.. لم يلتفت إليه أحد. بقي وحيدا في ساحة المسجد، ينظر في الفراغ، رافعا يديه للريح، وصوته في الأثير...
تذكرت تلك اللقطة وأنا أتابع معاناة رئيس حزب تواصل، ذي الخلفية الإسلامية (الخلفية في المسرح مجرد ديكور)، هذه الأيام. بدأت المعاناة في استديوهات الجزيرة (من مأمنه يؤتى الحذر).. كان الظفيري باردا إلى حد الصلف، متهكما إلى حد الاستخفاف.. تحمل نبرته الصوتية من الضجر بالضيف أضعاف ما تحمل من الاحتفاء به.. حين يسترسل منصور في كلام جميل يقاطعه الظفيري بجملة تغتال المعنى قبل وصوله للمشاهد...
حين يتحدث منصور بفصاحته المعهودة، ونبرته الواثقة عن قوة الحزب، وتماسك المعارضة، يذكره الظفيري، بنبرة ماكرة، بعدد نواب حزبه! وحين يعزف "بَتَّ" الرحيل، و ينشد "شواهده"... يسخر الظفيري من النجاح الباهر الذي حظيت به مليونيات شارع الإستقلال، واعتصامات ابن عباس، ووقفات عرفات...
بالكاد يضغط الرئيس أعصابه فيغوص في الكرسي الهزاز ليشيح بوجهه بعيدا متأملا المكان.. يغرق في تأملاته.."هل أنا حقا في جزيرة الإخوان! هل عرفني الصحفي! أتمنى أن يكون اللقاء مسجلا.. هناك سوء فهم..." أخرجه الظفيري من تأملاته بإعلان نهاية اللقاء بخسارة كبيرة...
لجأ رئيس تواصل إلى الجزيرة في نهاية جولة خارجية أمل منها تجديد نشاطه بعد فترة الركود في الداخل، فعاد منها بالخف الثاني... عاد الرئيس إلى الساحة فوجدها فارغة كما تركها.. ذهب الطلاب في العطلة، وانشغل النقابيون بصراعاتهم ومطالبهم.. فقرر الرئيس الدعوة إلى "عشاء اجتماعي"، فالرئيس يكره الفراغ، ويعشق الجموع.. لكنه بدا شبيها بالعشاء الأخير... نقضت المعارضة الوثيقة التي وقعتها منذ أيام... ذهب الرمز في عمرة متزامنة مع عمرة رئيس الجمهورية تاركا كرسيه في الطائرة الرئاسية لرئيس كتلته النيابية.. الحج؛ عبادة وتجارة! وانشغل رمز آخر بالدعاء في هذا الشهر الكريم، بعد صبر طويل على السياسة، (أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين) (الأنبياء 83).
اتصل الرئيس بعدو الأمس، حليف اليوم، مذكرا بدماء ولد المشظوفي التي لن تجف، فرد بصوت خافت أنهكه الصيام والقيام.. "إني كادح إلى ربي كدحا فملاقيه.. وهذا شهر تصفد فيه الشياطين..." أغلق الخط، فاستشاط الرئيس غضبا، وتوعد بالانتقام في الوقت المناسب... لم يبق سوى الحزب الرديف، الحزب السخي بكوادره... انتظر ثوان حسبها ساعات.. ثم جاء صوت نصف نائم.."علووو". قال الرئيس بنبرة ساخرة: (يا صالح إئتنا بما تعدنا)، (الأعراف 77) رد الصوت باستخفاف (إنما يأتيكم به الله إن شاء وما أنتم بمعجزين)، (هود 33)... سمع، في الهاتف، صوت باب يغلق.. فكر بشماته.."جاء دوره لمغادرة الحزب..."
أحس الرئيس بالأسى... أين شركائي! تخيل صوت هاتف.. "ويأتينا فردا...". استعاذ بالله من الشيطان الرجيم.. ثم تمتم.."فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون." اتصل بمركز تكوين العلماء.. رد عليه صوت لم يتبينه.."سنعاود الاتصال بك بعد قليل." جاءته رسالة قصيرة تقول: "استوفيتم رصيدكم من فتاوى هذا العام، ولم تستثمروها كما ينبغي.. مكتب الشيخ مشغول بالتأصيل للجهاد في سوريا.".. مع بلاك ووتر، والسي آي إيه، والبي بي سي.. فكر.. حتى أنت يا...
رن الهاتف، فتحَ الخط قبل أن يتبين هوية المتصل.. " أنتم مدعوون، سيادة الرئيس لندوة فكرية بعنوان...". دخل القاعة فأحس بالدفء.. الآل والأصحاب كلهم هنا.. المعارضة بعجماواتها الناطحة، وعقولها الناصحة..الأغلبية الموالية على حرف، وبعض رموز الحزب الحاكم... دار النقاش حول التسيير، ولم يطرح برنامج سياسي واضح.. البعض يشكو الغبن، والبعض الآخر لم يتكيف مع الفطام المبكر عن المال العام...
جاء دور الرئيس، فوعد بأن لا يطيل، ووفّى بوعده هذه المرة. قال: إن حزب تواصل تحالف مع الحزب الحاكم في انتخابات مجلس الشيوخ... ذاك تذكير مهم يدلى به في حضور وكالة الأنباء الموريتانية، وعلى أعتاب انتخابات بلدية ونيابية...
كان تواصل يختطف المعارضة. ثم جاء رمضان فانشغل حراسه، ففر المخطوفون وهم يرددون "لبيك اللهم عمرة محاورة، وحجة مستوزرة.. ربنا هؤلاء صدونا عن الحوار..."
آوى أبو سفيان إلى ابنته، حين انفض الناس من حوله، فطوت فراش النبي صلى عليه وسلم دونه... لكن "إيرا" في السجن! وما زاد حيرة الرئيس هو القادمون الجدد إلى الساحة.. هل انقلب الخليج عليهم! بعدا لظفار، والكويت، وأطار... ترى ما هي المهمة التي كلف بها القادم الجديد على عجل، وهو الخبير بمكة وشعابها؟!
أحس الرئيس بالضيق.. كان يجلس وحيدا في العراء.. تناول المصحف ليعيد استخارة طالما نجحت معه.. فتحه فوقعت عينه على كلمة.."ففروا..." أغلق المصحف، أخذ نفسا عميقا، ثم قال، كأنما يكلم نفسه.. على الخبير وقعت...
دكتور/ محمد إسحاق الكنتي
Alkunty_dr@yahoo.fr
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق