أوراق عن أژواد (8) الترابط مع ليبيا
طاب المقام في ليبيا مع بداية ثمانينات القرن الماضي لطوارق مالي والنيجر وعربهم وبعض الموريتانيين، حيث وجدوا قواسم مشتركة مع المواطنين الليبيين، الذين عاملوهم بكرم وتسامح، وهو دين اشتهروا به على مدى التاريخ، حيث اكتشف الطرفان بعضهما البعض، فالوافدون بحاجة إلى العناية والاستقرار، وبعض القبائل الليبية متعلقة بأصول تربطها بالساقية الحمراء والصحراء، من هجرات مرتدة من تلك الأصقاع بعد ما وصلت مع الهجرة العربية (الهلالية) الشهيرة التي تشكل معظم عرب ليبيا.
وفي ظل النظام القبلي الذي هو أساس الحكم في ليبيا آنذاك، كانت القبائل تتبارى في تعزيز مراكزها ضمن التنافس على السلطة والنفوذ، حيث اكتشفت أن للكثير منها صلات "قرابة" مع قبائل البيظان، وأرادت أن تعزز وضعها حتى ولو لم يتحقق من ذلك – في النهاية - الشيء الكثير. ويتكئ بعضهم في ذلك إلى روايات قديمة عن وجود صلات قرابة، كما الحال بين أولاد سْليمان في فزان وعشيرة أولاد سْليمان البربوشية، بينما يرى معظم الباحثين أن الأمر لا يعدو تشابها في أسماء القبائل العربية على طول أوطانها من الجزيرة العربية إلى الصحراء الكبرى. ومن ذلك في ليبيا وموريتانيا: البحيحات، أولاد إبراهيم، البريكات، الجعافرة، أولاد موسى، اليعاقيب (إيديقب) أولاد خْليفة، بنو داوود (أولاد داوود) بنو رزق (أولاد رزق) أولاد عطية، أولاد سالم، الشويخات، أولاد الشيخ، الطرشان، الفقرة، أولاد عبد الله، العبيدات، أولاد عْلي، العيايشة، القواسم، القرعان (الڴرع) أولاد مبارك، أولاد ناصر (أولاد الناصر) أولاد وافي (أولاد الوافي) الهماملة (الهمال) أولاد يونس... ومن هذه القبائل مَن اسمه واحد لكنه يختلف في الأصل إذ البعض عربي والآخر أمازيغي. أما بالنسبة للطوارق فالأمر أسهل، لأن الرابطة لم تنقطع بين مَنهم في شمال الصحراء وفي جنوبها.
وساهمت القرابة هذه في اكتساء هجرة الطوارق الماليين والنيجيريين وعربهم في الثمانينات طابعا جديدا شجع على التحاق العديد من أسرهم بهم في ليبيا، حيث فُتح لهم باب التجنيس كبقية المواطنين العرب، باسم "الجنسية العربية" وهي غير الجنسية الليبية، التي اقبل عليها الكثيرون من مواطني الدول العربية الذين لم يجدوا فرصا في التمتع بالإقامة وحق العمل، فتوفرت لهم الخدمات نفسها التي يتمتع بها الليبيون: التموين ومجانية التعليم، ومزاولة بعض المهن، ولكن مع التجنيد في القوات وقوات الأمن، الذي يؤمن نظريا الحماية والنفوذ، لكن هذا الوضع لم يشمل في الحقيقة من الأژواديين والأژواڴيين سوى من ليست لهم أوراق ثبوتية تخولهم الإقامة أو البطاقة القنصلية، التي كان الليبيون يتحاشون مضايقة حمَلَتها. إلا أن هناك البعض الذي حصل على الجنسية الليبية، منهم مجموعة الطرشان النيجيرية ذات الأصول العربية الحسانية المهاجرة من موريتانيا إلى أژواد ومنه إلى النيجر، فقد التحمت بالمجموعة الليبية التي تحمل الاسم نفسه واستقرت في سرت إلى اليوم.
الدخول إلى ساحات المعارك
مع استمرار أوضاع مالي والنيجر في التدهور اقتصاديا واجتماعيا، ازدادت الاضطرابات والتناحر على السلطة في باماكو ونيامى وتوالت الانقلابات العسكرية أو محاولاتها، فتفاقمت أحوال العرب والطوارق بصورة أكثر، واستفحل البؤس، واتسعت الهوة بينهم وحكومتيْهما، التين لم تثق يوما في ولائهم، وظلت على مدى عقود من الزمن تتهمهم بتربص الدوائر بها، حتى قبل انخراطهم في عملية التجنيد. وقد تسارعت الأحداث ليتحقق ما كان مجرد اتهام، عندما دخلت طرابلس في حلبة الصراع الإقليمي والدولي المعقّد، ضمن طموح العديد من القوى الناشئة إلى ملء الفراغ، الذي تركه لاعبون كبار في الساحة، بعد أن ظلوا مهيمنين عقودا من الزمن، كمصر والهند ويوغوسلافيا (على رأس كتلة عدم الانحياز) وتزامن ذلك مع انفجار صراعات دامية في المشرق العربي بسبب محاولة إسرائيل القضاء على الثورة الفلسطينية، التي كانت في أوج عنفوانها، حيث نجحت في إرغامها على الانغماس في الشؤون الداخلية للدول المجاورة الضعيفة، فدخلت في صراعات دموية جانبية مع الأردن الذي كادت تطيح بنظامه، ثم مع لبنان الذي كانت فاعلا رئيسيا في حربه الأهلية، ثم المشكلة الأفغانية مع غزو الاتحاد السوفيتي لها، وتفجر الثورة الإيرانية، التي كانت مقدمة للحرب المدمرة العراقية الإيرانية.
وقد أغرى هذا الوضع ليبيا التي كانت في أوج انفتاحها على العالم الذي جعلها قبلته، لما لها من ثروات نفطية هائلة، واستعداد لوضعها في خدمة أهدافها السياسية الطموحة، وخاصة محاربة السياسات الامبريالية، فانجرت إلى الدخول في مواجهات مسلحة مع مصر (سنة 1977) والسودان (1976) وتونس (قفصة 1980) وتشاد، وانخرطت في العديد من بؤر الصراع: جزر مورو بجنوب الفلبين، وباناما ونيكاراغوا، وأيرلندا الشمالية، مع أنها طرف – بشكل أو آخر - في حرب الصحراء الغربية.
في هذه الظروف كانت طرابلس في حاجة ماسة إلى العنصر البشري، لاستعمال ترسانتها الضخمة من الأسلحة، فاتجهت إلى تجنيد الكثير من المواطنين العرب – كما سلف - الذين جذبتهم الحملة الدعائية الكبيرة التي تقدم ليبيا كقلعة للحرية والمقاومة ضد الاستعمار والامبريالية والصهيونية والميز العنصري، بديلا لمصر جمال عبد الناصر، وهو ما استجاب له في بداية الأمر الكثيرون، وغالبيتهم تنتمي إلى منظمات سياسية معارضة لأنظمة قائمة في الدول المجاورة، مما عرّض طرابلس لضغوطٍ وتشهيرٍ إعلامي، أدى في النهاية إلى تسريح غالبيتهم، أو وضعهم مباشرة تحت تصرف منظماتهم، كما الحال في السودان وتشاد. وكان ممن بقي في جيشها من المجندين مجموعات من شباب أژواد وأژواڴ عربا وطوارق، شاركوا في عمليات خارجية، من أهمها الانضمام إلى مقاومة الاجتياح الإسرائيلي للبنان سنة 1982؛ ضمن قوات الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين القيادة العامة، حيث دخلوا في مواجهة مع الإسرائيليين في الجنوب اللبناني، الذي قاتلوه ببسالة، فسقط منهم عدد من الشهداء، ثم اتجهوا إلى الشمال لينسحبوا مع الجيش السوري إلى دمشق، لكنهم لم يلبثوا أن لجؤوا إلى السفارة الموريتانية - على رأسهم إياد آڴ غالي - لتؤمّن لهم الحماية والعودة إلى وطنهم. وقد حاول مبعوث من أمين الجبهة العام أحمد جبريل أن "يستعيدهم" لكنهم رفضوا الاستمرار في التعامل مع هذه الجبهة، التي اتهموها بالخَوَر، وأفرادَها بالفسوق، وهم الذين جاءوا "دفاعا عن الإسلام والمسلمين"، وقد رتبت السفارة سفرهم إلى الجزائر، الأقرب إلى وطنهم.
ومع اشتداد الصراع بين ليبيا وتشاد سنة 1987، ووقوع قوة ليبية كبيرة في أيدي التشاديين في "فايا لارجو" و"وادي دوم" وشلل قوات الدروع والدبابات، وبروز فاعلية القوات الخفيفة المشكلة من سيارات الدفع الرباعي، المجهزة بالرشاشات والمدافع، اتجهت ليبيا إلى هذا السلاح، وإلى تكوين كتائب سريعة الحركة، كان فرسانُها بلا منازع الأژواديين، مثل الصحراويين قبل ذلك بسنوات. وقد شارك العديد منهم في معارك منطقة آوزو محل النزاع بين ليبيا وتشاد، قبل أن تعود إلى الأخيرة في تسعينات القرن الماضي بقرار من محكمة العدل الدولية التي أنيط بها الملف؛ كما شارك عدد محدود من رجالهم في العمليات المسلحة في أزواڴ وخاصة أژواد من سنة 1990 – 2006 ضد حكومتيهما، مع العلم أن السلطات الليبية ظلت حريصة على منع انتقال أعداد مؤثرة من الرجال والسلاح إلى الدولتين، التين ارتبطت معهما بعلاقات قوية، وجعلتهما حجر الزاوية في سياستها بإفريقيا التي استثمرت فيها طاقات سياسية واقتصادية كبيرة، فألجمت أي محاولة جادة تنطلق من أراضيها لتهديد الحكومتين، إلى جانب معطى آخر هو احترام تفاهما مع الجزائر بأن لا تتعدى حدودا معينة في نشاطها داخل الإقليمين، حتى أنها أغلقت قنصليتها في كيدال بعد فترة قصيرة من فتحها بضغط جزائري.
وقد أثبتت الأحداث اليوم أن أژواديي ليبيا كانوا يحضرون أنفسهم من زمن طويل لانتهاز أول فرصة تتاح، للعودة إلى صحرائهم وتحقيق حلم الأجيال بإقامة كيان ينعمون فيه بما حُرموا منه خلال نصف قرن:الحرية والكرامة، واستعادة الهوية الثقافية والدينية، وقد توفرت هذه الفرصة بعد اندلاع ثورة فبراير الليبية سنة 2011، وقيام حلف شمال الأطلسي بشن غاراته المدمرة، حتى سقط النظام، مما قلب الموازين في الإقليم وفي المنطقة بأسرها. فانتقل الأزواديون دون عناء إلى وطنهم ليطردوا الجيش المالي بسهولة مذهلة، وبتنسيق كامل ومحكم بين الفصيليْن الرئيسيين حركة تحرير أزواد، وحركة أنصار الدين، ويحكموا سيطرتهم على الإقليم المترامي الأطراف، ومدنه وبلداته، وذلك رغم التباين في الأهداف المعلنة، فالأولى علمانية لا ترضى بغير الاستقلال بينما تعلن الثانية أن مطلبها تطبيق الشريعة الإسلامية ولا تتحدث عن الانفصال.
يتواصل
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق